يبدو أن الحديث عن قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» المعروف بـ«جاستا»، الذي أقره الكونجرس الأميركي أخيراً يكشف عن تباين ثقافي أكثر من كونه سياسياً. فالقرار الذي يعد مفاجأة لكثيرين يوضح ضرورة التعامل مع آلية صنع القرار في الإدارة الأميركية. فالرئيس الأميركي باراك أوباما تلقى أول صفعة من الكونجرس الأميركي في رفض «الفيتو». وهي سابقة بالنسبة له خلال مدة رئاسته للفترتين. والأمر الآخر نتيجة التصويت وهي 97 صوتاً مقابل صوت واحد. وهذا يعنى أنه رغم اعتراض البيت الأبيض والبنتاجون والاستخبارات والخارجية داخلياً، والاتحاد الأوروبي ودول عديدة خارجياً، تجاهل الكونجرس كل ذلك ودعم القرار. والسؤال الذي يطرح: كيف يكون التصويت بهذه النتيجة ولمصلحة من؟. وهنا يظهر الوجه القبيح للسياسة ولعبة الانتخابات واللعب على العواطف. فأعضاء الكونجرس أمامهم انتخابات مقبلة وقضية ضحايا 11 سبتمبر أصبحت عاطفية ويصعب على السياسيين الوقوف في وجه هذه الموج العاطفي. فيتم تجاهل منطق السياسة من أجل كسب قاعدة جماهيرية تساعده في الانتخابات. وفي اليوم التالي ظهرت أصوات داخل الكونجرس وخارجه تطالب بإعادة النظر في مشروع هذا القانون خاصة أن المترتبات التي ستنتج عنه ستفتح باب جهنم على الأميركيين أنفسهم في مطالبات قانونية. وقد قالها بوضوح أوباما الذي وصف قرار الكونجرس بأنه قرار خاطئ وسيهدد الولايات المتحدة التي ستجد نفسها معرضة فجأة إلى الترافع ضدها في المحاكم الأخرى في بعض الدول. وذلك كإجراء المعاملة بالمثل. وقال إن القانون يقضي على مبدأ الحصانة السياسية. وحديث أوباما المنطقي يكشف عن حجم الخطأ الذي اقترفه الكونجرس، ولكنه أيضاً يكشف عن حجم الخطأ الذي ارتكبته الإدارة الأميركية نفسها. فهو يقول إنه لم يتوقع قرار الكونجرس، وهذا دلالة ضعف في معالجة البيت الأبيض للقرار فعادة حينما يتبنى الرئيس قراراً فإن الإدارة الأميركية تعمل على مختلف الصعد مع كل أعضاء الكونجرس لتقنعهم بقرارها وتوضح لهم الصورة الكاملة للقرار. لكن أن يكتشف الرئيس في صباح اليوم التالي أن القرار تم حسمه بهذه النتيجة من الكونجرس فهذا يعني أن الزوج آخر من يعلم! وربما أحسن وصف لهذا التصويت كان من المتحدث باسم البيت الأبيض جيمس برادي الذي قارن بين تصرف أعضاء الكونجرس وأطفال التمهيدي بعد تصريحهم بأنهم تسرعوا في التصويت على القانون ولم يدركوا تبعات القانون. المضحك أن الرئيس أرسل خطاباً بثلاث صفحات إلى أعضاء الكونجرس يحذرهم من تبعات هذا القانون. ويبدو أن كثيراً منهم لم يكلف نفسه حتى قراءة هذا الخطاب. القرار تشتم فيه غريزة حب الأموال، فالقرار وهو منذ سنين يطبخ في أروقة الكونجرس ويقف خلفه المحامون الذين يدركون أنهم سيحققون أموالاً طائلة إذا ما انفتحت أبواب المحاكم لقضايا من هذا النوع. وتم توقيته بدهاء ليكون في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات. وهذا السيناريو يجعل الشخص يتفاجأ بأن هذه العاصمة التي تدير العالم يتم التحكم فيها من خلال اللوبيات وجمعيات المصالح والروح الانتهازية. لكنه الواقع. ولا تذهب بعيدا. فيكفي أن تستمع للمرشح الأميركي الجمهوري دونالد ترامب لتدرك أي حضيض وصلت إليه ما يفترض أنها قمة النخبة في السياسة الأميركية. ترامب بلغته السوقية وسطحيته الثقافية ولعبه على العواطف مثال حي لانبطاح القيم السياسية في العاصمة الأميركية. والسعودية التي تستند إلى عمق خليجي متحالف ومؤثر، خاصة دولة الإمارات العربية المتحدة، تشعر بمرارة تجاه الصديق الأميركي، فهذا التخاذل الأميركي لم يسبق له مثيل في العلاقات الخليجية الأميركية. ويطرح كثيرون سؤالاً: على ماذا تراهن واشنطن حينما تفرط في حليف استراتيجي لها وهي التي تتمادى في علاقة مع طرف هو السبب في مشاكل المنطقة وهي إيران؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة بقيمها ومبادئها السياسية التي تروج لها في محاربة الإرهاب أن تضع يدها مع دولة راعية للإرهاب وهذا باعتراف المسؤولين الأميركيين ومدير الاستخبارات الأميركية. وهنا تنعدم المبررات السياسية لهذا التوجه المخالف للمصالح حتى لو تجاهلنا مرجعية المبادئ. وتظهر حلقات غائبة في دائرة صنع القرار توجه وتدعم هذا التوجه. وبيروقراطية صنع القرار في واشنطن تجعل مساحات كبيرة نافذه لمن يجيد استخدامها. المنطقة تعيش كلها حصاداً سلبياً لمواقف أميركية متخاذلة. وما تشهده المنطقة في العراق وسوريا واليمن نتائج لتراجع التنسيق والعمل السياسي المشترك بين الدول المؤثرة والمعتدلة في المنطقة والولايات المتحدة. والآن هناك أصوات كثيرة في واشنطن تطرح أسئلة ملحة عن الاستراتيجية التي تعمل بها واشنطن في المنطقة. خاصة بعد التصعيد الأميركي الروسي في سوريا. وعلو الصوت الروسي في القرارات المتعلقة بالأزمة السورية. كما أن قراراً مثل هذا سيستخدمه المتشددون كدليل على استهداف أميركي للثروات العربية ولإحياء نظريات المؤامرة وهي المغناطيس الذي يجذب الجهلة والمراهقين لمصيدة الإرهاب. السعودية تدرك أن علاقات استراتيجية قوية مع واشنطن مهمة لها. ولكن لابد من مقاربة جديدة لهذه العلاقة، لا ترتكز فيها على قناعات من يسكن البيت الأبيض فقط، بل تتشعب إلى مبنى الكابيتول والإدارات الحكومية ذات العلاقة بالقرار السياسي ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث ومؤسسات المجتمع المدني. وما يميز العمل السياسي في الولايات المتحدة أنه فضاء مفتوح لكل من يريد. ويتم ذلك في وضح النهار وقانونياً. فمؤسسات المجتمع المدني لها دور داخلي ضخم ولكن أيضاً لها دور في تقرير سياسات الدولة والعلاقة مع الدول ويبلغ عدد منظمات المجتمع المدني في الولايات المتحدة أكثر من مليوني منظمة. الولايات المتحدة ليست هي التي نعرفها فمن مراهقين سياسيين يختطفون المشهد، إلى قرارات تصدر تخالف نصوص القانون الدولي وماكينة ضخمة تحركها شهوة الأموال. تبدو أميركا غريبة علينا. أو ربما نحن الذين أصبحنا غرباء بالنسبة إليهم. هناك شرخ ما حدث، يحتاج إصلاحه إلى صوت العقل ومنطق الواقع وحكمة الكبار. محمد فهد الحارثي* ------------------ * كاتب سعودي